ما الذي يجعل معظم الأفلام السعودية سيئة؟
منذ انطلاق السينما السعودية، ونحن نسمع عبارة: ”مازلنا في بداياتنا." تُستخدم هذه العبارة باستمرار كمبرر لكل إخفاق سينمائي نراه. ومع أن هذه المقولة صحيحة من حيث المبدأ، إلا أن استخدامها المتكرر بدأ يفقد قيمته. نعم، السينما السعودية جديدة نسبيًا، ولكننا لا نعيش في فراغ. نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين، في زمن تتوفر فيه المعرفة بضغطة زر، وزمن يتيح لأي صانع أفلام أن يتعلّم ويطوّر أدواته من خلال دراسة آلاف النماذج العالمية المتاحة له مجانًا.
لدينا القدرة على الوصول إلى تجارب سينمائية عريقة من مختلف دول العالم، ولدينا منصات تعليمية تقدم دورات مكثفة في كتابة السيناريو، والإخراج، والإنتاج، والتحرير، وكل ما يرتبط بصناعة الأفلام. فهل من المنطقي بعد كل هذا أن تستمر الأفلام السعودية بهذه الهشاشة؟ هل من المنطقي أن نُرجع ضعفها فقط إلى "حداثة التجربة"؟
ما أراه شخصيًا هو أن المشكلة الحقيقية تكمن في غياب النقد، وفي ثقافة ”التشجيع الأعمى“. كثير من السعوديين يشعرون بمسؤولية وطنية تدفعهم لدعم أي عمل سعودي، بغض النظر عن جودته. وهذه الظاهرة مفهومة من ناحية نفسية واجتماعية، لكنها كارثية على المستوى الفني.
أي إنجاز سعودي، حتى لو كان سطحيًا أو ضعيفًا، يُقابل فورًا بعبارات مثل "كفو!"، و"شي نفتخر فيه!"، وهذا التهليل لا يخلق إلا بيئة زائفة، تُشعر أصحاب العمل أن ما قدّموه جيد بما فيه الكفاية، فلا يُراجعون أنفسهم، ولا يسعون للتطور.
والمشكلة الأكبر أن أي محاولة للنقد تواجه باتهامات بالخيانة أو نقص الوطنية، وكأن الوطنية تعني التصفيق لكل إنجاز سعودي بلا وعي.
الخطأ الأكبر: المخرج ليس بالضرورة كاتبًا
هنا نصل إلى نقطة محورية في أزمة السينما السعودية: الخلط بين الإخراج والكتابة.
سأضرب مثالًا واضحًا وصريحًا بالمخرج فارس قدس. من وجهة نظر فنية بحتة، يمتلك فارس موهبة إخراجية عظيمة. لديه عين سينمائية واعية، ومن الناحية البصرية، لا يمكن إنكار تميّزه.
ولكن أين تكمن المشكلة؟ في النص.
السيناريوهات التي يكتبها فارس قدس لنفسه تفتقر العمق، والحوار فيها ضعيف، والبنية السردية مهلهلة. وهذا يعود إلى مشكلة شائعة نراها كثيرًا: الاعتقاد بأن المخرج الجيد لا بد أن يكون كاتبًا جيدًا أيضًا، وهو اعتقاد خاطئ، مصدره التقليد الأعمى لنماذج مثل كوينتن تارانتينو ومارتن سكورسيزي، اللذَين يكتبان ويخرجان أفلامهما.
لكن الحقيقة أن الكتابة والإخراج مهارتان مختلفتان تمامًا. كأن لو نقول إن من يُجيد العزف على الغيتار يجب بالضرورة أن يُجيد العزف على البيانو. نعم، كلاهما آلات موسيقية، لكنهما مختلفتان تمامًا في التقنية والأسلوب والفهم.
ونرى هذا جليًا في تجربة المخرج العالمي دينيس فيلنوف، الذي قال بصراحة إنه لا يهتم بالحوار، وإنه سيكون سعيدًا بإخراج أفلام صامتة لو أمكنه ذلك. ومع ذلك، لا يزال يُعتبر من أعظم مخرجي عصره. لماذا؟ لأنه ركّز على ما يُجيده: الإخراج، وترك كتابة السيناريو لمن يتقنها.
وهذا تمامًا ما حدث مع الفلم السعودي ”هوبال“ للمخرج عبدالعزيز الشلاحي. الفلم تلقى استحسانًا كبيرًا، وكان من أفضل التجارب السينمائية السعودية في السنوات الأخيرة. أحد أسباب نجاحه هو الشلاحي لم يكتب السيناريو بنفسه، بل ركّز على الإخراج، وترك كتابة النص لأصحابها. والنتيجة؟ عمل متماسك بصريًا وسرديًا.
الحرية الإبداعية المطلقة ليست دائمًا نعمة
فلم "أحلام العصر" للمخرج فارس قدس هو خير مثال على كارثة الحرية الإبداعية المطلقة. كون فارس يمتلك شركة الإنتاج التي تنفّذ أفلامه، يملك السيطرة الكاملة على كل مراحل العمل: الكتابة، الإخراج، الإنتاج، التحرير.
هذه السيطرة الكاملة، رغم أنها تبدو جذابة، إلا أنها في الحقيقة تُنتج أفلامًا تعاني من الطول الزائد، والمشاهد الزائدة، والحوارات التي لا تؤدي إلى شيء.
في صناعة السينما العالمية، يوجد دائمًا فريق يُراجع المخرج، يُعيد ترتيب المشاهد، يُقترح حذف أو تعديل، ويوجه العمل نحو الأفضل. لكن حين يتحكم شخص واحد بكل مفاصل العمل، دون مراجعة طرف آخر أو نقد، تكون النتيجة عملاً محشوًا بالمشاهد غير الضرورية، وفوضى فنية تُرهق المشاهد وتُفقد الفلم تماسكه.
والسبب بسيط. لأن المخرج يقول: "تصوير هذا المشهد كان متعب جداً، واستغرق مني ومن طاقم العمل والممثلين جهداً ووقتاً طويلاً، فلا بد أن أضيفه."
لكن هل يضيف المشهد عنصر جوهري للقصة؟ هل يخدم بناء الشخصيات؟ هل يُحرك الأحداث؟ إذا كانت الإجابة "لا"، فلا يهم كم من الوقت استغرق تصويره، ولا كم من الجهد بُذل فيه. المعيار الحقيقي هو: هل يخدم الفلم؟
الفن ليس استعراضًا للجهد، بل إدارة ذكية للموارد لتقديم عمل صادق، متماسك، وموجّه للجمهور.
المشكلة ليست في حداثة السينما السعودية، بل في كيفية التعامل مع هذه الحداثة. الإخراج ليس مرادفًا للكتابة، والمَشاهد الجميلة لا تُنقذ نصًا ضعيفًا. الفنان الحقيقي يدرك متى يتعاون ومتى يُصغي للآخرين. دون وعي وتواضع، سنظل نكرر الأخطاء ذاتها، وننتج أفلامًا متقنة شكلًا، فارغة مضمونًا
في الختام، لن تتطور السينما السعودية حتى نُدرك أن النقد لا يُلغي الوطنية، وأن التشجيع لا يعني الصمت أمام الرداءة.